سورة النمل - تفسير التفسير القرآني للقرآن

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (النمل)


        


{فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ (56) فَأَنْجَيْناهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ قَدَّرْناها مِنَ الْغابِرِينَ (57) وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَساءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ (58)}.
التفسير:
قوله تعالى: {فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ} هذا هو الجواب الذي أجاب به القوم لوطا، حين أنكر عليهم هذا المنكر الذي يعيشون فيه، ويتعاملون به جهرة، وهو جواب ينطوى على استخفاف واستهزاء، فوق ما يحتوى عليه من بغى وعدوان.. إنهم لم يجيبوا على ما أنكره عليهم لوط، ولم يقبلوا ما دعاهم إليه، وإنما كان فعلهم الذي أرادوه به وبمن معه، هو الردّ العمليّ على هذا النصح الذي نصح لهم به.
{أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ}.
فلقد تنادوا فيما بينهم إلى أن يخرجوا آل لوط من القرية، واعتبروا لوطا ومن معه كائنات غريبة تعيش في هذا المجتمع.
{إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ} أي يدّعون التّطهر والتعفف، ويكرهون أن يعيشوا في هذا الجوّ الذي نعيش فيه.. وإذن فليخرجوا من بيننا، وإذا لم يخرجوا أخرجناهم.. فهذه القرية هي قريتنا، وليس لهم مقام فيها ما داموا لا يحيون حياتنا!! هكذا كان منطق القوم.. إنهم كثرة، وآل لوط قلة.
وما كان للقلة أن تتحكم في الكثرة.. وإذا كانت القرية لا تحتملنا وتحتملهم على هذا الخلاف الذي بيننا وبينهم، فليخرجوا منها مكرهين، غير مأسوف عليهم.
وليس هذا وحده هو جواب القوم.. فقد كان للقوم أجوبة كثيرة، أجابوا بها على دعوة لوط، كما ذكر القرآن عنهم ذلك في أكثر من موضع، كقولهم. {ما لَنا فِي بَناتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ ما نُرِيدُ} [79: هود].
وقولهم له أيضا: {أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعالَمِينَ} [70: الحجر] وقولهم: {لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ} [167: الشعراء].
فهذه أجوبة كثيرة كان يلقى بها القوم لوطا. ولكن هذا الجواب، الذي جاء في قوله تعالى: {فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ}.
هو تلخيص جامع لهذه الأجوبة كلها، وهو النهاية التي انتهت إليها كل هذه الأجوبة، فكان هذا الجواب هو جوابهم القاطع، الذي لا جواب لهم غيره، ولهذا جاء به النظم القرآنى على هذه الصورة التي تفيد القصر.. {فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ} أي ما كان لهم إلا هذا الجواب.
قوله تعالى: {فَأَنْجَيْناهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْناها مِنَ الْغابِرِينَ وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَساءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ}.
لقد أرادوا إخراج لوط والمؤمنين معه من القرية، ودبّروا لهذا الأمر ومكروا مكرهم له، فكان أن أخرجهم اللّه سبحانه من هذه الدنيا كلها، لا من القرية وحدها، فأمطر عليهم حجارة من سجيل، أتت على قريتهم، وعلى كلّ نسمة حياة فيها، على حين نجا لوط ومن معه، إلا امرأته، فقد كانت حربا عليه، وعلى المؤمنين، فأخذها اللّه بما أخذ به القوم، فكانت من الهالكين.


{قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلى عِبادِهِ الَّذِينَ اصْطَفى آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ (59) أَمَّنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَنْبَتْنا بِهِ حَدائِقَ ذاتَ بَهْجَةٍ ما كانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَها أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ (60) أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَراراً وَجَعَلَ خِلالَها أَنْهاراً وَجَعَلَ لَها رَواسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حاجِزاً أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (61) أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذا دَعاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفاءَ الْأَرْضِ أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ (62) أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ تَعالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (63) أَمَّنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (64)}.
التفسير:
بعد هذا العرض الكاشف، الذي عرضت فيه السّورة مواقف المشركين والكافرين، من دعوة الحقّ التي يحملها إليهم رسل اللّه، ويقدّمون بين يديها الآيات المحسوسة التي تنطق بقدرة اللّه وعظمته، وتشهد لرسله بأنهم مؤيدون من عند اللّه، وأن ما على ألسنتهم هو من كلمات اللّه، وأن ما بأيديهم هو من آيات اللّه- مع هذا، فقد عميت من الضالين الأبصار، وزاغت القلوب، فكان العناد والتحدّى، ثم التطاول والتعدّى.. وكان ذلك هو الجواب المحمّل بألوان التكذيب، والتهديد، الذي تلقاه الرسل من أقوامهم، إلا قليلا ممن شرح اللّه صدره للإيمان منهم، فنجا بنفسه، وكان من المفلحين في الدنيا والآخرة جميعا.
بعد هذا العرض، جاءت آيات اللّه، لتعقب على هذه الأحداث، ولتلفت الأنظار إلى اللّه وعظمته، وإلى ماله في عباده من آيات.. ففى هذا التعقيب يرى المؤمنون والمشركون جميعا ما تحمل كلمات اللّه، من بيان، تتجلّى فيه نعم اللّه عليهم، ويبين منها فضله الذي أفاضه على هذا الوجود!.
وقوله تعالى: {قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلى عِبادِهِ الَّذِينَ اصْطَفى آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ} هو خطاب خاص للنبى، ثم هو عام إلى كل مؤمن باللّه.. وفي هذا الخطاب دعوة إلى ذكر اللّه بالحمد على نعمه التي لا تحصى، والتي أجلّها وأعظمها، هو الإيمان الذي عمرت به قلوب المؤمنين.
وفي قوله تعالى: {وَسَلامٌ عَلى عِبادِهِ الَّذِينَ اصْطَفى} ذكر يقترن مع ذكر اللّه، بالتسليم على عباد اللّه الذين اصطفاهم، واختصهم بالمزيد من فضله، وهم رسله الكرام، كما يقول سبحانه: {سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ، وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ} [180- 182 الصافات] وفي اقتران ذكر اللّه بالحمد والثناء عليه، بذكر المرسلين، والدعاء بالسّلام عليهم- في هذا تكريم لرسل اللّه، واعتراف بفضلهم على الناس، إذ كانوا مصابيح هدى، ودعاة أمن وسلام للعباد.. وهذا من شأنه أن يجعلهم موضع إعزاز، وحبّ، وإكرام، من أقوامهم خاصة، ومن الإنسانية كلها عامة، لا أن ترجمهم الأيدى الأئمة، وتسلقهم الألسنة الفاجرة، وتزدريهم العيون البلهاء، كما يفعل السفهاء، والحمقى، من أهل الشرك والضلال..!
وقوله تعالى: {آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ} هو استفهام تقريرى، يراد به أخذ الجواب من كل لسان، على هذا السؤال.
وأصل الاستفهام {أاللّه} قلبت همزة الوصل في لفظ الجلالة ألفا، للتسهيل، فصارت مع همزة الاستفهام مدّة.
و{أمّا} أصلها {أم} حرف العطف الذي يقع بعد همزة التسوية، {ما} الموصولة.. فأدغمت الميم في الميم.. وجىء باسم الموصول {ما} بدل {من} للإشارة إلى ما يعبد المشركون من معبودات، لا تعقل، من الحيوان، والجماد، وغيرها، وذلك أكثر ما يشرك به المشركون.
قوله تعالى: {أَمَّنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَنْبَتْنا بِهِ حَدائِقَ ذاتَ بَهْجَةٍ ما كانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَها أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ؟ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ}.
فى الجواب على الآية السابقة جوابان:
جواب لأهل البصائر وأصحاب العقول.. وهو أن اللّه هو وحده المستحقّ للعبادة.
وجواب لأهل الشرك، الذين ران الضلال على قلوبهم.. وهو أنهم يؤثرون آلهتهم التي يعبدونها، ولا يلتفتون إلى غيرها.
وقد جاءت هذه الآية: {أَمَّنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ...} والآيات التي بعدها، لتلقى هؤلاء المشركين مع آلهتهم، ولتضع أمام أعينهم موازنة بينهم، وبين اللّه سبحانه وتعالى، لينظروا فيروا إن كان هناك من آلهتهم من يشارك اللّه في هذه الصفات التي للّه سبحانه وتعالى.. فإن كان يقع لأيديهم أو لأبصاهم، أو لعقولهم شيء من هذا، فليمسكوا بآلهتهم، وإلّا فليروا رأيهم فيها، إن كان لهم- مع أهوائهم المتسلطة عليهم- رأى.
فقوله تعالى: {أَمَّنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً..} هو معادل لمستفهم عنه محذوف، وهو الآلهة التي يمسك بها هؤلاء المشركون، والتقدير: أآلهتهم هذه، أم من خلق السموات والأرض وأنزل لهم من السماء ماء...؟.
وفي قوله تعالى: {فَأَنْبَتْنا بِهِ حَدائِقَ ذاتَ بَهْجَةٍ} هو إلفات إلى ما أودع اللّه سبحانه وتعالى من أسرار في هذا الماء، الذي ينزله من السماء، فيحيى به الأرض بعد موتها، ويكسو عريها حللا زاهية رائعة، ذات ألوان وأصباغ، تبهج النفس، وتشرح الصّدر.
وفي العدول عن ضمير الغائب المفرد في {أنزل} إلى ضمير المتكلم المعظم ذاته في {فأنبتنا} إشارة إلى أمرين:
أولهما: أن إنزال المطر عملية، قد لا يشهدها كثير من الناس، وإذا شهدوها فإن كثيرا منهم قد لا يلتفتون إليها.. أما هذه الزروع، وتلك الجنات التي تزين وجه الأرض، فإنه قل في الناس من لا يشهد هذه الظاهرة، ويملأ عينيه، ومشاعره منها، ومما فيها من حسن وروعة.. فكان من المناسب هنا أن يرى الناس يد القدرة القادرة، وهي تنسج هذه الحلل الجميلة الرائعة التي تنكسو الأرض، وتجلوها كما تجلى العروس في ليل زفافها.. ففى قوله تعالى:
{أنبتنا} حضور للّه سبحانه، في هذه الزروع والجنات التي تزين وجه الأرض، وتقع لعينى كل إنسان.
وثانيهما: أن هذه الزروع وتلك الجنات.. ليست على صورة واحدة، فهى مختلفة الألوان والأشكال، متعددة الأنواع والأجناس،. كما يقول اللّه سبحانه {فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ إِلى طَعامِهِ أَنَّا صَبَبْنَا الْماءَ صَبًّا ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا فَأَنْبَتْنا فِيها حَبًّا وَعِنَباً وَقَضْباً وَزَيْتُوناً وَنَخْلًا وَحَدائِقَ غُلْباً وَفاكِهَةً وَأَبًّا} [24- 31 عبس] فهذه الصور التي لا تكاد تحصى من الزروع والأشجار، في مسرح العين، تبدو وكأن آلافا من الأيدى، عملت على إخراجها من الأرض، واستيلادها من بطنها، وصبغها بهذه الأصباغ.. وإن الأمر لعلى خلاف هذا الظاهر، فهى يد واحدة قادرة، هى يد الحكيم العليم، التي تفردت بكل هذا.. ومن هنا حسن أن يذكر اللّه سبحانه وتعالى بضمير الحضور، وبصيغة الجمع، حيث ترى قدرة اللّه قائمة على كل نبتة، وكل شجرة.. وليس كذلك الشأن في المطر، ونزوله.. إنه صورة واحدة في كل أحواله..!
وقوله تعالى: {ما كانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَها} الضمير {فى شجرها} يعود إلى الحدائق.
والمعنى، أن هذه الحدائق ذات الروعة والبهجة، ليس في مقدور الناس جميعا أن ينبتوا شجرها، وأن يخرجوه من الأرض، فضلا عن أن يمسكوا عليه حياته، ويبلغوا به هذا المدى من النماء، والإزهار، والإثمار، وتنوع الألوان والأشكال.
وفي قوله تعالى: {أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ؟} سؤال تقريرى، يراد الجواب عليه، بعد النظر إلى هذه المعارض التي عرضتها الآية الكريمة لبعض قدرة اللّه، وآثار رحمته! وجواب أهل العناد والضلال، هو جواب كل معاند ضال.. وهو العمى عن الحق، والتشبث بالباطل.. ولهذا جاء قوله تعالى: {بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ} مسجلا عليهم هذا الضلال، آخذا من أفواههم جوابهم على هذا السؤال.
وهو أنهم قوم يعدلون عن الحق إلى الباطل، ويولون وجوههم إلى معبوداتهم التي يعكفون عليها.
قوله تعالى: {أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَراراً وَجَعَلَ خِلالَها أَنْهاراً وَجَعَلَ لَها رَواسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حاجِزاً.. أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ؟ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ!} وهذه معادلة أخرى، يوازن فيها المشركون بين اللّه، وبين آلهتهم.
أيّ أحق بالألوهة، وأولى بالعبادة؟. أآلهتكم تلك الخرساء الصماء، أم اللّه الذي جعل الأرض قرارا؟ أي موضعا صالحا لحياة الإنسان، واستقراره عليها، {وَجَعَلَ خِلالَها أَنْهاراً} أي وأجرى بين شعاب الأرض أنهارا، تخلل أجزاءها، بحيث يأخذ كل جزء منها حظه من هذه الأنهار {وَجَعَلَ لَها رَواسِيَ} أي جبالا راسية، تمسك بها أن تميد أو تضطرب.. {وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حاجِزاً} أي فصل بين ماء البحار، وماء الأنهار، حيث يلتقيان، فلا يطغى أحدهما على الآخر.. بل يبقى ماء الأنهار عذبا سائغا، ويظل ماء البحار ملحا أجاجا.
هذا هو صنع اللّه، وتلك آيات قدرته، وسوابغ رحمته.. فأين ما للآلهة التي تعبدونها، أيها المشركون الضالون؟
{أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ؟}.
أجيبوا! وقد أجابوا جواب الأغبياء الجاهلين، الذين لا حظّ لهم من علم.. فهم والحيوان على سواء.. ولو أنهم كانوا على شيء من العلم، لأنار لهم علمهم الطريق إلى الحق، ولنطقوا بما ينبغى أن ينطق به أهل العلم، وهو أنه {لا إله إلا اللّه}.
ولكن أتى لهم هذا، وهم في هذا الجهل المظلم؟: {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ}.
وفي الآية الكريمة إعجاز من إعجاز النظم القرآنى.. فقد تكررت كلمة {جعل} أربع مرات، تخللت عشر كلمات، دون أن يشعر أحد بهذا التكرار، أو يجد له أي أثر في النطق بهذه الكلمات، التي تناغم لحنها، وتوازن نظمها، فكانت لحنا علوى النغم، يأسر الآذان بوقعه، ويملك المشاعر، بسرّه وجهره..!
أقرأ الآية الكريمة ورتلها ترتيلا! {أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَراراً.. وَجَعَلَ خِلالَها أَنْهاراً.. وَجَعَلَ لَها رَواسِيَ.. وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حاجِزاً؟ أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ؟ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ..}.
ثم ألا تسجد بعد هذا لهذا الإعجاز من كلام رب العالمين؟
قوله تعالى: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذا دَعاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفاءَ الْأَرْضِ أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ؟ قَلِيلًا ما تَذَكَّرُونَ}.
ومعادلة ثالثة.. بين ما للّه، وبين ما يكون لهذه المعبودات من دون اللّه.
أفهذه الآلهة، التي لا تملك ضرّا ولا نفعا، أم الإله الواحد، القادر، السميع، البصير، الذي تفزعون إليه- أيها الضالون المكذبون- عند كل كرب، وتدعونه عند كل شدّة، فيستجيب لكم، ويكشف الضرّ عنكم.؟
كما يقول سبحانه: {قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ.. تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنْجانا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْها وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ} [63- 64: الأنعام] أآلهتكم هذه؟ أم اللّه ربّ العالمين، الذي أعطاكم هذه الصورة البشرية السويّة، ومنحكم العقل، والمنطق، وأقامكم على هذه الأرض خلفاء للّه فيها؟
ألا تذكرون فضل اللّه عليكم، ولا تنظرون إلى نعمه إليكم؟ ألا تشكرون له أن أخرجكم من العدم إلى الوجود، ثم أعطاكم من الوجود الأرضى أحسن وأكرم ما خلق فيه؟
أجيبوا.. أيها الضالون المكذّبون، الجاحدون؟
وقد أجابوا بما يجيب به كل جاحد لنعمة اللّه.. لا يذكر اللّه إلا عند الشدّة، فإذا انجلى الكرب، وذهبت الشدّة {نَسِيَ ما كانَ يَدْعُوا إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْداداً لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ} [8: الزمر].
ولهذا جاءت فاصلة الآية: {قَلِيلًا ما تَذَكَّرُونَ} لتسجل عليهم هذا التنكر لنعمة اللّه عليهم، وإحسانه إليهم.. فهم لا يذكرون للّه هذه النعمة، ولا يتذكرون هذا الإحسان.
قوله تعالى: {أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ؟ أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ؟ تَعالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ}.
ومعادلة أو موازنة رابعة.
أآلهتكم هذه الجاثمة الجامدة، أم اللّه الذي يهديكم في ظلمات البر والبحر، بما أقام لكم من معالم في السماء والأرض، تتعرفون بها وجهتكم، في تنقلكم على ظهر الأرض أو البحر؟ أآلهتكم هذه المستخزية العاجزة.. أم الإله الذي يرسل الرياح فتثير السحاب، وتدفعه إلى حيث ينزل ماء من السماء، فيحيى الأرض ومن عليها؟
ماذا تقولون؟
أجيبوا.. أيها اللّاهون الغافلون! ويجيبون بهذا الصمت الغبي.. ويجيب الوجود كله من حولهم، بهذا الجواب، الناطق بوحدانية اللّه، المنزه للّه عن الشريك، والصاحبة والولد.
{تَعالَى اللَّه ُ عَمَّا يُشْرِكُونَ}.
قوله تعالى: {أَمَّنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ؟ أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ؟ قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ}؟
وهذه معادلة أو موازنة خامسة.
أآلهتكم هذه العجماء، الصماء.. أم اللّه الذي يبدأ الخلق، وينشئه ابتداء على غير مثال، ثم يعيده خلقا آخر كما بدأه، بعد أن يبلى، وتذهب معالمه؟
ماذا تقولون؟
أتقولون بعد هذا.. إن مع اللّه إلها، يصنع ما يصنع اللّه، ويتصرف معه في هذا الوجود، أو يشاطره بعضا منه؟
{قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ.. إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ}.
فأين الحجة على ما بين أيديكم؟ وأين البرهان على ما تقولون من أن مع اللّه إلها أو آلهة أخرى؟ إن القول بلا حجة يستند إليها، وبلا دليل يقوم عليه- هو كلام، لا معقول له، ولا حياة فيه، ولا نفع لمن يتعلق به:
{وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ لا بُرْهانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّما حِسابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ.. إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ} [117: المؤمنون].
وفي هذا العرض الممتد، المختلف الصور والألوان، لآيات اللّه في الأرض وفي السماء، وفي البر والبحر، لا يجد المكابرون والمعاندون، سبيلا إلى الإفلات والهروب من الإقرار بوحدانية اللّه.. إذ كانوا كلما أخذوا وجها من وجوه الضلال، لقيهم معرض من معارض قدرة اللّه.. حتى إذا كان آخر المطاف كانت كل ظنونهم وأوهامهم في آلهتهم قد ضلت عنهم، وفرت من بين أيديهم، فوقفوا في حيرة، بين الاتجاه إلى اللّه الذي يحجبهم عنه كبرهم وعنادهم، وبين الجري وراء آلهتهم بعد أن انكشف لهم أمرها.. وهنا لا يطالبهم القرآن بأكثر من أن يستعملوا شيئا من العقل والمنطق، وأن يحترموا إنسانيتهم، فلا يؤمنوا إلا بما يقبله العقل، ويطمئن إليه القلب، وإلا بما يقوم للعقل منه برهان على أنه الحق! لقد أقامهم القرآن في هذا العرض مقام الشك، والشك: كما يقولون: أول مراتب اليقين،


{قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلاَّ اللَّهُ وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (65) بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْها بَلْ هُمْ مِنْها عَمُونَ (66) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَإِذا كُنَّا تُراباً وَآباؤُنا أَإِنَّا لَمُخْرَجُونَ (67) لَقَدْ وُعِدْنا هذا نَحْنُ وَآباؤُنا مِنْ قَبْلُ إِنْ هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (68) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ (69) وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (70) وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (71) قُلْ عَسى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ (72) وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ (73) وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ ما تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَما يُعْلِنُونَ (74) وَما مِنْ غائِبَةٍ فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِلاَّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (75) إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (76) وَإِنَّهُ لَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (77) إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ بِحُكْمِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (78)}.
التفسير:
قوله تعالى: {قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ}.
هو تعقيب على هذه المعارض، التي عرضت فيها الآيات السابقة للمشركين وغباءهم وضلالهم، وآلهتهم وما هي عليه من عجز وضعف، أمام جلال اللّه وعظمته وقدرته.
وفي هذه الآية عرض للمخلوقات جميعا، أمام علم الخالق، المحيط بكل شىء، وأن من في السموات والأرض من مخلوقات لا تعلم مما استأثر اللّه سبحانه وتعالى بعلمه شيئا.. فأهل الأرض مهما علموا من علم فإن علمهم بهذا الكوكب الذي يعيشون فيه، لا يعدو أن يكون قطرة من محيط الأسرار المودعة في هذا الكوكب، فكيف علمهم بما في هذا الوجود الذي هم قطرة في محيطه الذي لا حدود له؟ وكذلك مخلوقات العوالم الأخرى، علمها كعلم أهل الأرض، هو محدود محصور في دائرة وجودها.
وقوله تعالى: {إِلَّا اللَّهُ} إلا هنا ملغاة.. والمعنى أنه لا يعلم الغيب إلا اللّه وحده.. أما من في السموات والأرض فمنفى عنهم هذا العلم.. وإن علموا شيئا فهو بالاضافة إلى علم اللّه، وإلى ما جهلوه من هذا العلم- لا وزن له، ولا اعتداد به.
وقوله تعالى: {وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ} تأكيد لنفى علم الغيب عن أهل السموات والأرض.. وذلك أن الناس وهم أكثر خلق اللّه ادعاء للعلم، لا يعلمون متى يبعثون من قبورهم إذا ماتوا، وهذا البعث هو أمر يتصل بهم، ويعنى كلّ واحد منهم. فإذا جهلوا ما هو من شأنهم فهم لغيره أجهل، وإذا جهل الناس فغيرهم من المخلوقات أشد جهلا.
ويجوز أن يكون المراد هنا هم الناس وحدهم، ويكون نفى العلم عنهم بميقات بعثهم حجة قائمة على أنهم لا يعلمون الغيب.. فليؤمنوا إذن بعالم الغيب والشهادة إيمانهم بكل غيب، وليدعوا هذه الآلهة التي يجسدونها، ويتعاملون معها، كما يتعاملون مع أموالهم وأمتعتهم.
فاللّه سبحانه وتعالى، وإن لم يروه، فإن كثيرا من الحقائق التي بين أيديهم لم يروها، ولم يقع في علمهم شيء منها.
إن الإنسان ليستبين كثيرا من الأمور التي لا تقع لحواسة، بما يلوح للعقل من شواهد عليها.. فلم لا يؤمن المشركون باللّه، وهذا الوجود كله شاهد للّه؟
قوله تعالى: {بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ.. بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْها.. بَلْ هُمْ مِنْها عَمُونَ}.
هذا تعقيب على قوله تعالى: {وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ}.
وذلك أن البعث وإن لم يعلم يومه فإنه آت لا ريب فيه، وعدم العلم بيومه، لا يستدعى إنكاره وجحوده.. ولكن ذلك هو الذي فتن كثيرا من الناس، وأضلهم، فكفروا بهذا اليوم، إذ لم يعلموه علما واقعا محققا.. وهذا غيب من الغيوب التي استأثر اللّه سبحانه وتعالى بعلمها.. فالذين ينكرون يوم البعث، إنما ينكرون أمرا قامت عليه الأدلة، وتظاهرت له البراهين، وإن كان لا يشعر بها الغافلون الضالون، ولهذا جاء قوله تعالى في الآية السابقة {وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ} منبها إلى هذه الغفلة التي عليها هؤلاء المشركون المنكرون ليوم البعث.. إنهم لا يشعرون به، مع أن كثيرا من الإشارات الدالة عليه تمر بهم، ولكنهم في غمرة ساهون!- وقوله تعالى: {بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ} إضراب على الصفة التي وصفوا بها من قبل، وهي عدم شعورهم بالبعث، وإلقاء صفة أخرى عليهم فوق هذه الصفة، وهي أن ما لديهم من علم في شأن الساعة، كثير، والشواهد عليه بين أيديهم لا تحصى، ولكن هذا العلم، وتلك الشواهد لم تحقق لهم علما بها.. وهذا هو بعض السر- واللّه أعلم- في تعدية المصدر {علمهم} بحرف الجر فى، بدلا من الباء.. في النظم القرآنى {بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ}.
{فِي الْآخِرَةِ} ولم يجىء هكذا: بل إدراك علمهم بالآخرة.. فالعلم الذي عندهم بالاخرة كثير، ولكنهم يمارون في هذا العلم، ويجادلون فيه.
وقوله تعالى: {بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْها} هو وصف آخر يضاف إلى أوصافهم التي تكشف عن موقفهم من أمر الآخرة.. {إنهم في شك منها} لا يقيم لهم العلم الذي بين أيديهم عنها، إلا أوهاما وظنونا.
ومعنى ادّارك علمهم، أي كثر، وتتابع، وجاءهم داركا، أي متلاحقا.
تختلف وجوهه في تصورهم، وتتغاير صوره في عقولهم، وتتوارد عليهم الخواطر فيه بين الشك واليقين.
وقوله تعالى {بَلْ هُمْ مِنْها عَمُونَ} وصف ثالث يلحق بالوصفين السابقين، وهو أنهم في عمى وضلال عن الآخرة، فلا يرون لها وجودا، ولا يحسون لها أثرا.
والصورة التي تتمثل من هؤلاء المنكرين ليوم البعث، هى صورة مائجة مضطربة، كما يموج السراب في الصحراء.
فهناك شواهد قائمة على البعث والحساب والجزاء.. ولكن المشركين لا يشعرون بها، ولا يلتفتون إليها.
وهناك علم كثير، تحدثهم به آيات اللّه التي يتلوها عليهم رسول اللّه، في أمر البعث والحساب والجزاء.. {بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ} وهذا العلم لا يستقبله المشركون إلا بقلوب مريضة، وعقول ضالة.. فلا تقع منه إلا على ظنون.. {بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْها}.
وهذه الظنون التي تقع لهم من هذا العلم، سرعان ما يطغى عليها الضلال والجهل، فتختفى، ويختفى معها كل شيء عن هذا اليوم، وإذا هم في عمى، فلا يرون للآخرة ظلا، أو خيالا، في أنفسهم.. {بَلْ هُمْ مِنْها عَمُونَ}.
وفي تعدية المصدر عم، بمعنى أعمى- بحرف الجر {من} بدلا من عن الذي هو للفعل، إذ يقال: عمى عن الشيء: ولا يقال عمى منه، إلا إذا كان الشيء هو السبب في العمى، الذي جاء من جهته.. وهذا- واللّه أعلم- ما أريد هنا، وهو أن الآخرة، كانت سببا في عمى الضالين والمشركين.
وذلك أن أمر البعث، والحساب والجزاء، هو مضلة الضالين، وغواية الغاوين.
وليس الإيمان باللّه هو السبب في تردد المشركين وتوقفهم عن الإيمان.. وإنما كان ترددهم وتوقفهم عن الإيمان باللّه، لأن الإيمان باللّه يستلزم الإيمان بالبعث والحساب والجزاء.. وهذا هو الذي يتردد إزاءه المترددون، ويتوقف عنده المتوقفون.. وإنه ليسير غاية اليسر على المشركين أن يستبدلوا إلها بإله، وربا برب.. وليس من اليسير أبدا أن يقبلوا ربّا لا يقبلهم إلا إذا آمنوا بالبعث بعد الموت، ثم الحساب والجزاء.. فذلك هو الذي لا تقبله عقولهم ولا تتصوره مدركاتهم.. ولقد كان أكثر جدلهم واقعا على البعث بعد الموت، وفي هذا ما حكاه القرآن عن المشركين والمكذبين بيوم البعث: {وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أَفْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَمْ بِهِ جِنَّةٌ؟} [7- 8 سبأ] إنهم يعرفون اللّه، وإن كانت معرفة سقيمة معتمة، وإنهم ليقرون بوجوده، ويتهمون النبي بالافتراء على اللّه، ولكنهم ينكرون أشد الإنكار أن يبعث الناس، بعد أن يصيروا عظاما ورفاتا.
وفي الآية الكريمة إعجاز من إعجاز القرآن الكريم، يحتاج الوقوف عليه إلى شيء من النظر الخاشع بين يدى هذا الجلال المشرق من سماوات الحق.
ففى الآية الكريمة ثلاثة مفاهيم لموقف واحد.. هو موقف المشركين من يوم القيامة.. فالمشركون وإن كانوا على موقف واحد من إنكارهم للبعث، فإنهم في إنكارهم ليسوا على صورة واحدة.. إذ يكاد يكون لكل منكر للبعث تصور خاص به، ومفهوم استقلّ به، وأقام إنكاره للبعث عليه.
ولتصوير هذه التصورات، وتلك المفاهيم في جميع مستوياتها، وعلى اختلاف منازلها، ينبغى أن يكون لكل إنسان صورة خاصة به، ووصف محدّد له.
ولكن هذا أمر لا يضبط، بل يقع موقع الاستحالة المطلقة.
ولو أنه ضبط، لما كان له كبير قيمة في كشف الموقف العام للمشركين المكذبين بهذا اليوم، إذ ما أكثر الصور المتشابهة المتكررة، التي لا يكاد يلمح فيما بينها فرق، إلا تحت النظر الميكرسكوبى.
وإذن، فالعمل الذي يجدى في هذه الحال، هو ضبط هؤلاء المكذبين في مجاميع، كل مجموعة تمثل اتجاها معينا له صفته، وله وجهه في هذا المقام.. وهذا هو الذي فعله القرآن في هذه الآية.
فقد قسم المكذبين بيوم البعث، حسب مشاعرهم له- إلى ثلاث مجموعات، كما نرى في الآية الكريمة: {بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ. بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْها بَلْ هُمْ مِنْها عَمُونَ}.
فالمجموعة الأولى، تأخذ علمها عن الساعة من مدلول النظر العقلي المجرد، دون التفات إلى عالم الغيب، الذي تحتجب وراء ستره أمور كثيرة.. منها البعث، والقيامة.. فمن لا يؤمن بعالم الغيب، لا يهديه عقله وعلمه إلى الإيمان بيوم القيامة.. وهؤلاء هم العلماء الذين يحتكمون إلى العقل وحده، وعلى الحجج الاستدلالية التي ينقض بعضها بعضا.
والمجموعة الثانية، هى التي تخرج من المجموعة الأولى- بعد تضارب الحجج في عقولها- إلى التوقف والشك.
والمجموعة الثالثة، هى التي لم ترفع رأسها للبحث والنظر، ولم تفتح قلبها للإيمان والتسليم، بل هي في شغل وغفلة بما هي فيه، من حياة مادية، لا ترتفع كثيرا عن حياة الأنعام.
قوله تعالى: {وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَإِذا كُنَّا تُراباً وَآباؤُنا أَإِنَّا لَمُخْرَجُونَ؟. لَقَدْ وُعِدْنا هذا نَحْنُ وَآباؤُنا مِنْ قَبْلُ إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ}.
هذا هو موقف المشركين من البعث وما وراءه.. إنه الإنكار الغليظ له، وإنه الجدل العنيف فيه.. ولم يجادل المشركون في اللّه، ولم ينكروا ألوهيته.. ولكنهم ينكرون أشد الإنكار أن يبعثوا.
والاستفهام هنا إنكارى، إذ يرون استحالة عودتهم إلى الحياة مرة أخرى، بعد أن يصيروا عظاما نخرة، ورفاتا بالية.
ثم يستدلون على مقولتهم تلك، بما هو واقع مشاهد.. فهؤلاء آباؤهم وأسلافهم الذي مضوا من قرون طويلة- قد وعدوا بالبعث.. فأين هم الآن؟
وأين البعث الذي وعدوا به!.
{إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ}.
أي ما هذا القول إلا من خرافات قديمة، وأساطير بالية!
قوله تعالى: {قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ}.
هو تهديد لهؤلاء المشركين المكذبين بيوم الدين، وأنهم بتكذيبهم هذا قد انتظموا في سلك المجرمين، وحق عليهم ما حق على المجرمين من بلاء وعذاب!.
قوله تعالى: {وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ}.
هو عزاء للنبى الكريم، في قومه هؤلاء الذين أجرموا، والذين حق عليهم العذاب.. فليدعهم النبيّ لمصيرهم المشئوم هذا، وليخل نفسه من لذعات الأسى والحزن عليهم.. فإنهم ليسوا من أهله.. إنهم عمل غير صالح.
وفي هذا العزاء تهديد آخر للمشركين، وتحقيق للعذاب الواقع بهم، واستحضار له، حتى لكأنه وقع بهم فعلا، وإن النبي ليجد الأسى عليهم، ويتقبل العزاء فيهم!! وقوله تعالى: {وَلا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ} هو تسرية عن نفس النبي، لما كان يجد من ضيق، لما يرميه به قومه من أذى، وما يدبرون له من كيد.. فاللّه سبحانه وتعالى ناظر إليه، ومؤيد له، وآخذ بيده إلى طريق النصر والعزة.. وللّه ولرسوله وللمؤمنين قوله تعالى: {وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ}.
وهذا الاستفهام إنكارى، يقوله المشركون في استهزاء وسخرية واستنكار:
{متى هذا الوعد؟} أي متى يوم البعث الذي تعدنا به، وتهددنا بما نلقى من عذاب فيه؟.. فقد استبعدوا أولا أن يكون في الإمكان بعث الأموات من القبور بعد أن تتحلل أجسادهم وتضيع في التراب.. فقالوا ما حكاه القرآن عنهم في الآيات السابقة: {لَقَدْ وُعِدْنا هذا نَحْنُ وَآباؤُنا مِنْ قَبْلُ إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ} ثم هم ثانيا يؤكدون هذا الإنكار بمنطق سقيم، وهو أنه لو كان في الإمكان بعث الموتى، فما الضرورة لبعثهم؟ إنهم كانوا أحياء في هذه الدنيا، فلم يموتون ثم يبعثون، إذا كان من بعثهم حكمة؟ ألا كان خيرا من هذا أن يظلوا أحياء إلى ما شاء اللّه، بدلا من أن يميتهم اللّه ثم يحييهم؟ فلم الموت ثم الحياة، إذا كانت نهاية الإنسان هي الحياة؟
ثم يسلمهم هذا المنطق السقيم إلى القول، بأنه لو كان البعث ممكنا، وكان لهذا البعث حكمة- فلم لم يقع هذا البعث ولو مرة واحدة في حياة الإنسانية، منذ آلاف السنين؟.. إنه لو كانت البعث أمرا سيقع- مع التسليم بإمكان وقوعه- لما قطعت الإنسانية هذه الآماد الطويلة من حياتها على هذه الأرض، ولما غيب الثرى هذه الأعداد التي لا حصر لها من أجيال الناس!! فمتى يأتى هذا اليوم؟.. إنه وعد كاذب، وسلاح خادع يتهددنا به محمد!! وفي هذا يقول شاعرهم:
حياة ثم موت ثم بعث حديث خرافة يا أم عمرو!!
وفي قولهم {إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ} مواجهة للنبى والمؤمنين، بهذا الإنكار المتحدّى.. فهم لا يلقون النبي وحده بهذا التحدي الساخر، وإنما يلقون به النبي، وكل من آمن به، ودان بيوم البعث وعمل له.. إنهم يبشرون في الناس بأن لا بعث، وينشرون فيهم هذا المعتقد الفاسد، حتى يكثر الواردون معهم على مراتع الحياة الدنيا.. {يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَما تَأْكُلُ الْأَنْعامُ وَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ} [12: محمد] قوله تعالى: {قُلْ عَسى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ} هو ردّ على هؤلاء المشركين المنكرين ليوم البعث، الساخرين بالمؤمنين به.. وقد أعطى اللّه سبحانه نبيه الكريم هذا الجواب الذي يجيب به على سؤالهم المتهكم المنكر.. وهو جواب يحمل إليهم نذر هذا اليوم، ويذيقهم جرعات من بعض العذاب المعدّ لهم فيه.
وقوله تعالى: {عَسى} هو يقين واقع، لا رجاء متوقع.. فما يعد اللّه سبحانه وتعالى به فهو واقع لا شك فيه، على أية صورة جاء عليها الوعد.
وإنما جاء هذا الوعد في صورة الرجاء، استهزاء بالمشركين المكذّبين، ليقابل استهزاءهم الذي جاء في هذا الاستفهام الإنكارى في قولهم: {مَتى هذَا الْوَعْدُ}؟.. ثم هو مطاولة لهم في طغيانهم، وإملاء لهم فيما هم فيه من تكذيب.
وقوله تعالى: {رَدِفَ لَكُمْ} أي وقع لكم، وعلق بكم، بعض هذا العذاب الذي تنكرونه وتستعجلونه.. ولكنكم لا تشعرون به، لأنكم في غمرة من جهلكم وضلالكم.
وأصل الرّدف: ما يجىء في عقب غيره.. ومنه الرديف، وهو من يركب خلف الراكب.. ومنه سمى الرّدف، وهو مؤخّرة الإنسان، وجمعه أرداف.
وفي التعبير بالفعل {ردف} دون غيره من الأفعال التي بمعناه.
ما يشير إلى أمور.. منها:
أولا: أن هذا العذاب سيجيئ من وراء ظنونهم، ويقع من حيث لا يتوقعون.. كما يجىء الرديف من الخلف، وكما يقع الرّدف من وراء.
وثانيا: أن الرّدف، أو الرديف، يلتصق بصاحبه.. وأن هذا العذاب هو ملتصق بهم، وممسك بكيانهم، لا يفلتون منه أبدا.
وثالثا: أن الردف، أو الرديف، هو عبء ثقيل، قد يبهظ المتعلق به.
وهذا العذاب المعجّل لهم في الدنيا، سيلاقون منه بلاء وشدّة.
وقوله تعالى: {بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ}.
هو إشارة إلى ما سيحل بالمشركين من خزى في الدنيا، ومن خذلان في مواقع القتال بينهم وبين المسلمين، حتى تضيق عليهم الأرض بما رحبت، ويدخل عليهم الرسول والمؤمنون مكة فاتحين.. إنه بعض العذاب الملتصق بهم.. وهو قليل من كثير.. مما يلقاه أهل الضلال في الآخرة.
وقوله تعالى: {وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ}.
هو إشارة إلى ما يسوق اللّه سبحانه وتعالى إلى الناس من فضل وما يمدّهم به من نعم.. وإن من أجلّ هذه النّعم، رسوله المبعوث إليهم، وآياته التي يتلوها عليهم، ولكنّ أكثرهم يلقون هذه النعم بالجحود والكفران.
وفي إضافة النبي الكريم إلى ربّه، بهذا الخطاب الذي يفرده فيه وحده في هذا تكريم للنبى، واحتفاء به، والتفات إليه بعين العناية والرعاية.
قوله تعالى: {وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ ما تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَما يُعْلِنُونَ}.
هو تهديد للمشركين، وأنهم لن يفلتوا من يد اللّه، ولن يخلصوا من عذابه لما هم فيه من كفر وضلال، يمتلىء به صدورهم، وتنطق به ألسنتهم، وتتشكل منه أعمالهم.. واللّه سبحانه يعلم ما يخفون وما يعلنون.. فأين يذهبون؟ وفي تكرار الإضافة للنبى إلى ربه وبضمير الخطاب للّه لا بضمير الغيبة- في هذا توكيد لهذا التكريم للنبيّ وإيناس له في حضرة ربّه.
قوله تعالى، {وَما مِنْ غائِبَةٍ فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ} ذلك هو بعض علم اللّه، الذي لا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء.. فما من غائبة تغيب عن علم كل عالم في الأرض أو في السماء، إلا ويعلمها اللّه، لأنها مودعة في كتاب مبين من قبل أن توجد.. كما يقول سبحانه: {ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [22: الحديد].
قوله تعالى: {إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ}.
مناسبة هذه الآية لما قبلها وما بعدها من هذه الآيات، هى أن بنى إسرائيل كانوا في نظر المشركين أصحاب علم، وأهل كتاب، وكانوا يسمعون منهم، ويتلقون عنهم كثيرا من الأخبار.. فلما جاء القرآن الكريم، وحمل إليهم كثيرا من أخبار الأولين، وعرض عليهم صورا من الحياة الآخرة.
والحساب، والجنة والنار، ورأوا فيما سمعوا من آيات اللّه كثيرا من وجوه الاختلاف مع ما كانوا قد سمعوه من اليهود- لمّا كان هذا، وقع في نفوس المشركين أن النبيّ إنما يأخذ من تلك الأخبار التي عند اليهود، وينقلها نقلا مضطربا، يخالف فيه الأصل الذي أخذ منه، ولهذا جاء قوله تعالى: {وَما مِنْ غائِبَةٍ فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ} ثم جاء قوله تعالى: {إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} ليلفت هؤلاء المشركين إلى علوّ هذا القرآن، وإلى أنه هو الذي يصحح لبني إسرائيل ما أحدثوا في الكتاب الذي بين أيديهم، من تحريف وتبديل، حتى وقع بينهم هذا الاضطراب والاختلاف، لأنه من علم اللّه الذي لا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء.
هذا، ولم يكن القرآن الكريم قد اتّجه إلى أهل الكتاب بعد، في هذا الدور من الرسالة الإسلامية، ولم يكن لقى اليهود لقاء مباشرا.. فكانت هذه الآية إشارة إلى أن القرآن لم يجىء للمشركين وحدهم، وإنما جاء كذلك إلى أهل الكتاب، ليصحح ما دخل على هؤلاء وهؤلاء من أباطيل، أفسدت العقيدة، وغيّرت معالم الحق فيها.. وأكثر ما اختلف فيه بنو إسرائيل مقولاتهم في المسيح، وأنه ابن زنا، وأنه ابن يوسف النجار، وأنهم صلبوه.
فجاء القرآن الكريم يقرر أن المسيح عبد اللّه ورسوله، وأنه نفخة من روح الحق، وأنهم ما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم.
ومما اختلف فيه اليهود والنصارى قولهم: {نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ} فجاء القرآن يكذب هذا الادعاء.
فقال تعالى لنبيه: {قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ؟ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ} [18: المائدة].
ومن ذلك أيضا قولهم في الأطعمة التي حرمها اللّه عليهم، نكالا بهم، وإصرا عليهم، وادعاؤهم أن هذه الأطعمة إنما حرمت على آبائهم الأولين، قبل أن تنزل التوراة، وأنها شريعة، وليست عقوبة.. وقد كذبهم القرآن في هذا، فقال تعالى: {كُلُّ الطَّعامِ كانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرائِيلَ إِلَّا ما حَرَّمَ إِسْرائِيلُ عَلى نَفْسِهِ.. مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْراةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ فَاتْلُوها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ فَمَنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ قُلْ صَدَقَ اللَّهُ.. فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [93- 95: آل عمران].
ففى قوله تعالى: {فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} هو دعوة إلى اليهود أن يخرجوا.. هذا الإصر المضروب عليهم، وذلك بأن يدينوا بالإسلام الذي هو ملة إبراهيم، وبغير هذا فيكون ما حرم عليهم من طعام، هو نكال بهم، لا يرفع عنهم أبدا.
والطعام الذي حرمه اللّه على اليهود خاصة، عقابا لهم، هو ما أشار إليه سبحانه وتعالى في قوله: {وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما إِلَّا ما حَمَلَتْ ظُهُورُهُما أَوِ الْحَوايا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصادِقُونَ فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ واسِعَةٍ وَلا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ} [146- 147: الأنعام].
ومن ذلك افتراؤهم على اللّه، بأن النار لن تمسهم إلا أياما معدودات، وأنهم مهما فعلوا من منكرات وآثام، فلن يمسهم من عذاب اللّه إلا هذا العذاب الهين، الذي لا يتجاوز مداه أياما معدودات، فكذبهم اللّه بقوله: {وَقالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْداً فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ بَلى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ، فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ} [80- 81: البقرة].
وهكذا جاء القرآن يقصّ على بني إسرائيل، ويكشف لهم مفترياتهم على اللّه، وما خالفوا فيه شريعته، وكان موضع خلاف بين أهل العلم، فيهم.
قوله تعالى: {وَإِنَّهُ لَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ}.
إشارة إلى هذا القرآن، وما تحمل آياته من الحق والهدى.. وأن الذين يؤمنون به من المشركين، ومن أهل الكتاب، سيجدون الهدى مما هم فيه، من زيغ وضلال، واختلاف.
قوله تعالى: {إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ بِحُكْمِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ}.
وإذ كان القرآن الكريم هو الحق، فإن من ينحرف عنه سيضل، ومن ضل فإنما يضل على نفسه، وسيقضى اللّه سبحانه وتعالى فيه بحكمه، ويأخذه بعد له: {وَهُوَ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ} العزيز الذي لا يخرج عن سلطانه أحد، العليم، الذي لا يغيب عن علمه ما يعمل الظالمون.

1 | 2 | 3 | 4